المركز الأكاديمي | |
للمؤتمرات والنشر العلمي |
لايخفى على الدارسين في حقل
اللّسانيات، وأقصد الباحثين العرب، وحتى المستشرقين أهمية اللغة العربية، عبر
مختلف مراحل تاريخ الفكر اللغوي، للغات الطبيعية واللّغات السامية، وبغض النّظر عن
كونها لغة القرءان الكريم، فهي لغة العلم والمرونة- Flexibility، التي تؤهلها للتأقلم مع المفاهيم العلمية، على إختلاف توجهاتها
ودلالاتها. ومتغيراتها الزمنية.
ولاريب أنّ علماؤنا القدامى قد أسهموا، في تقعيد علومها بدءً من النّحو
الذي أرسى معالمه أبو الأسود الدؤلي( 16ق.ه- 69ه)، وكان هذا الحدث بمثابة الإكتشاف
الأكبر، لعلمٍ يصون وجودها الإبستمولوجي، ويحقّق استمراريتها، دون اختلاط مع ما
يلحن من اللهجات، داخل المجتمع، وقد تلا ذلك بزوغ علم العروض وعلم الصوتيات-Acoustics، الذي ابتكره الخليل ابن أحمد الفراهيدي، (100ه-170ه)، واستحق
مؤلفه " العين" أن يأخذ قصب السبق، في كونه مرجعاً لا غنى للسانيين عنه،
في ميدان الصوتيات واللّسانيات الحديثة، حتّى أنّه ومن باب عزو الفضل لأهله، ومن
باب الأمانة العلمية، والحقيقة المعرفية، نجده قد يفوق في جوانب عدّة، النظريات اللّسانية الغربية،
على اختلاف مستويات الصوت، اللغوية والفزيائية.
وقد تأثر بمنهجه تلميذه سيبويه(148 هـ - 180 هـ)، الذي أبدع في تقعيد مرجعيات
النّحو العربي، حتى قال في حقّه المبرّد: " من أراد أن يؤلف كتاباً بعد
سيبويه في النّحو فليستح"، فهؤلاء الجهابذة الذين تركوا بصاماتهم الذهبية،
في تاريخ الفكر اللغوي العربي، كانت عقيدتهم، هي البحث في خبايا اللغة كظاهرة، لها
جوانبها المرتبطة بكل مستويات الكلام، وخصائص المعرفة في دلالاتها وسياقاتها، التي
تخدم العلم وتبني الفرد كنموذج إجتماعي. حتى قبل أن يستظهر الغرب نظرياته ومناهجه
الكلاسيكية، التي أرّخت لميلاد البحث اللّساني بدءً من الوصفية والشكلانية
والبنيوية وغيرها، من المناهج التي تناولت اللغة وربطتها بالوظيفة، والغريب في
الأمر أنّنا نجدُّ تهميشا مقصوداً، كلّما تصفحنا المؤلفات الغربية، التي تتحدّث عن
أصل اللغة وعلومها، يضاف إلى ذلك تأثر المحدثين العرب ممّن تخصّصوا في اللغويات،
والأدب بالنظريات الغربية لدرجة الولاء والبراء. منذ أن ظهر علم اللّسانيات على يد
" فرديناند دي سوسير"، وتفرعت مجالاته من اللّسانيات العامة والتطبيقية
والوظيفية والحاسوبية وغيرها.
وفي
اعتقادي أنّ العربية بعلومها وتراثها، تحتاج أكثر من أي وقت مضى لتأصيل تراثها
النفيس، وإعادة فهمه وتنظير مضانه
الفكرية، ودمجه مع التكنولوجيات الحديثة، وهذا المنهج المعتدل الذي يجمع بين
عاملين هما الحداثة والتراث، كان مسعى صفوة من علماء العربية، أمثال تمام حسان
والسمرائي وعبد الرحمان حاج صالح، الذي يعدُّ بحق المنظّر الحقيقي لنظريات
اللّسانيات أو الألسنية العربية (النظرية
الخليلية الحديثة- مشروع الذخيرة اللغوية- حوسبة اللغة ...) المعاصرة.
والذي يمكن قوله أنّ العالم بمتغيراته الراهنة، وتطوراته المتلاحقة، وسياساته اللغوية المتباينة، قد فرض منطق اللّغات الحية واللّغات الضعيفة، فأين موضع العربية من كلّ هذا وذاك؟، إذا كانت لغةً خوارزمية، يشهد لها بذلك الغرب قبل العرب أنفسهم، حتّى أنّنا أصبحنا نلمس إقبال الناطقين بغيرها، على تعلّمها واستكشاف علومها الفكرية والتراثية، بما يذهل عقولنا كعرب ومسلمين، ويثلج صدورنا، بل ويحفزّنا للبحث عن سبل وتطويرها بما يتوافق وتطور العلم الحديث.
كاتب المقال: أ. جلول سهلي